الراي – احتلت العلاقة بين الحكومة والمجتمع المدني حيزا كبيرا من النقاشات على كافة المستويات وتصدى لذلك العديد من المختصين والمعنيين حول نمذجة العلاقة بما يحقق متطلبات المجتمع واحتياجاته ويصب بالنتيجة بالاولويات الوطنية، إن استدعاء الادبيات ذات العلاقة يشير الى أنه لا يوجد إنموذج مثالي لشكل هذه العلاقة ومستوياتها، فالمُلكيَة الوطنية لخطط الشراكة بين الحكومات والمجتمع المدني هي عامل النجاح واساس الانجاز.
ولا شك أن الإنطلاق من فهم الدورالحيوي والمستدام الذي يلعبه المجتمع المدني في الإستجابة للإحتياجات المجتمعية وتسهيل مهمة تنفيذ الخطط والسياسات فضلاً عن الاسهام في تطوير ممارسات من شأنها النهوض بالمجتمع على كافة الجوانب الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والسياسية يشكل بذلك الناقل الحضاري والمعرفي للمجتمع برمته.
مرد ذلك الخصائص والميزات التي يتمتع بها المجتمع المدني من المرونة في العمل والقدرة على مخاطبة كافة فئات المجتمع والوصول اليها بعيداً عن البيروقراطية والعوائق الإدارية وغيرها، ولا يخفى علينا ما لهذه الأدوار من أهمية في إنماء وتحفيز مسألة المشاركة العامة ونقل المجتمعات من حالة السكون الى حالة الحركة الايجابية مما يعتبر أداة تعزيز وترسيخ قيم المواطنة بإعتبار المشاركة العامة مكون رئيس لها.
وعلى الصعيد الوطني يشهد الأردن تطوراً في ادوار مؤسسات المجتمع المدني والادوار الرسمية على حدٍ سواء وهذه سمة إيجابية تتسم بها المجتمعات التي على قيد الحياة، فالتطور حاجة لمواجهة كافة التحديات ومواكبة المستجدات، وما يطرأ من ظروف إستثنائية لا تدخل في دائرة التوقعات. فالسياق التاريخي لعمل المجتمع المدني في الأردن تساوق مع تطور وبناء الدولة، حيث أعتبرت مؤسسات المجتمع المدني جزءاً أصيلاً من صيرة وصيرورة الدولة الاردنية. حيث يطالعنا التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي بالعديد من التجارب والوقائع التي تؤرخ تلك الأعمال والإنجازات، والسمة الغالبة لتلك الحقبة الزمنية هي سهولة التواصل وبناء شراكة ضمن القدرات والوسائل المتاحة فكانت تتسم بالوسائل البسيطة والتقليدية نظراً لعدم تعقد وتشعب تداخلات الحياة آنذاك.
اليوم، وبعد تشعب المشهد وتعدد الاولويات وتجذرت أسس ومعايير العمل المؤسسي وفقاً لمبادئ الحوكمة وسيادة القانون والعدالة والمساواة وفق الالويات والخطط والتشريعات السائدة فلم يعد يجدي نفعاً التعويل على أدوات تقليدية في إدارة العلاقة بين المجتمع المدني والحكومة وهنا المسألة تنطبق على الطرفين فلا مقبول من المجتمع المدني الإعتماد على الأدوات التقليدية ولا المؤسسات الرسمية كذلك لما تخلفه هذه الوسائل من فجوات وعلل وتشخيص للعلاقات لا ربما تترك أثراً على شكل العلاقة برمتها وبالتالي إجهاض فلسفة ورؤية العمل المشترك والمتضرر الوحيد هو المجتمع.
تشير التجارب والممارسات الفضلى الى وجود العديد من التصورات المؤسسية لبناء هذه الحالة من خلال إنشاء وزارات تعني بإدامة حالة التنسيق والمتابعة وفي بعض التجارب كانت تناط المسألة بالوزارة التي تعنى بالتواصل مع البرلمانات نظراً لطبيعة السلطة التشريعة والادوار التي تمارسها فكانت يتم إنشاء وزارة وسيطة تحت عديد من المسميات.
وبعض التجارب افردت شكلا مؤسسيا مستقلا لإدامة العلاقة مع المجتمع المدني نظراً لخصوصية الادوار التي يقوم بها المجتمع المدني فصار الى إنشاء مفوضية مجتمع مدني مستقلة تناط بها مهمة مأسسة ورسم العلاقة مع المجتمع المدني من كافة الوجوه.
والبعض الأخر ذهب بإتجاه إنشاء ادارات في كل مؤسسة حكومية تعنى بقطاع المجتمع المدني المعني بتحقيق اهداف وغايات تتقاطع مع اهداف وغايات المؤسسة او الوزارة الحكومية المعنية، وفي العقد الاخير أفرزت التجارب وعلى صعيد حقوق الانسان الى انشاء تنسيقية لحقوق الانسان نظراً لتعاظم الادوار التي تلعبها مؤسسات المجتمع المدني التي تعنى بحقوق الانسان وقدرة الدولة على الايفاء بمتطلبات اتفاقيات حقوق الانسان على صعيد الدولي، وهذا تغيير فلسفي في ادوار الدولة مرده تطوير مسؤولية الحماية وتدويل حقوق الانسان وزيادة الأعتبار لسيادة الفرد مقابل انكماش سيادة الدولة، ولعل التقهقر عن فهم هذا التحول العميق من شأنه أن يخلق جملة من التحديات للبنى السياسية والمؤسساتية للدولة على المدى البعيد.
عوداً على السياق الوطني، يمكننا القول إن الفوضى التشريعية أدى الى تقاطع في الاختصاصات والولايات المؤسسية حيث ان المرجعية المؤسسية التي تنظم عمل مؤسسات المجتمع المدني تتنوع وفقا لطبيعة التشريع حيث يمكن تسجيل مؤسسة وفقا لقانون الجمعيات وكذلك وفقا نظام الشركات غير الربحية دائرة مراقب الشركات في وزارة الصناعة والتجارة وكذلك وفقاً لقانون السياحة ووفقا لمذكرات تفاهم يمكن إبرامها مع المؤسسات ذات العلاقة هذا فضلاً عن غيرها من الاطر والمرجعيات والمؤسسية الأخرى، ولا بد من الإشارة الى أن ذلك خلق اجراءات مختلفة حسب كل مرجع الامر الذي استنفد القدرات والوقت والإجراءات على متابعات ذات طابع بيروقراطي نابعة من اشكالية عدم التنظيم وعدم وضوح الرؤيا.
جملة من الخطط والسياسات والاستراتيجيات التي تم إقرارها خلال العقد الماضي تمس كافة الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمؤسسية ولا يمكن ان تؤتي هذه الخطط والسياسات أكلها ونتائجها بمعزل عن شراكة حقيقية وتقسيم للأدوار وتقييم على مؤشرات علمية. هذا المشهد يؤدي بالضرورة الى تنازعات وتباينات تعصف بالعمل الوطني برمته الأمر الذي يؤكد الى ضرورة الاسراع في فتح حوارات ونقاشات لتطوير نموذج وطني لتأطير العلاقة بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني وفق اهداف واولويات وطنية واضحة وخطط وبرامج زمنية تنعكس على بنية المجتمع برمته وهي الغاية التي يسعى لها الجميع بالضرورة.