
لطالما شكلت حالة التواصل الرسمي مع مؤسسات المجتمع المدني حالة من الجدل والنقاش العميق على المستويات المؤسسية والفنية وطبيعة الادوار والاختصاصات، هذا الامر برز الى الملأ إبان زيادة الاهتمام حول التعامل مع الاليات الاممية والاقليمية من الدول والشعور المتنامي حيال أهمية التعاون والتنسيق بما يكفل ويعزز منظومة حقوق الانسان على المستوى الوطني ويساهم في النقاش الحضاري والفكري على المستوى العالمي.
من ذلك، كانت فكرة ايجاد وتطوير آلية حكومية للنهوض بهذه الاعباء على الصعيد الافقي والعامودي حالة فريدة تتمايز فيها الدول وشكلت محلاً للنقاش المستفيض على كافة المستويات، ولعل اول النهج الرسمي الذي ظهر في هذا السياق كان من خلال وزارات الخارجية والتي أنيط بها مهمة لعب الدور الدولي والاقليمي في التعامل مع هذه الاليات، الا ان حالة التقييم الموضوعي اشارت الى ان المسألة يعوزها عمقاً فنياً واجراءات ادارية ومؤسسية وخطط وسياسات وطنية ربما لا تستطيع وزارات الخارجية بلوغها نظراً لطبيعة حقوق الانسان التي تشمل جوانب العمل الرسمي وبالتالي يحتاج لالية وصيغة عمل عابرة للعمل الوزاري الرسمي ذي الطابع البيروقراطي.
راكمت التجارب العالمية تطوراً في ذات السياق بتشكيل لجان تكون وزارة الخارجية حاضنتها المؤسسية لتنهض بهذه الادوار، الان ان هذا النهج الرخو لم يفلح في إحراز تقدم على الصعيد الوطني والدولي على سواء.
هذا الاحتياج الوطني والاقليمي والدولي لتنسيق اوضاع حقوق الانسان لم يكن من قبيل الترف الفكري او الزائد المؤسسي وانما أملته التحولات الفكرية والمؤسسية في عمل الامم المتحدة وغيرها من الآليات الاقليمية فضلاً عن ازدياد الفهم وانتشار الوعي الشعبي والرسمي بضرورة الاستفادة من التجارب والممارسات الفضلى في تعزيز وحماية حقوق الانسان.
ولعل المنطقة الاوروبية كانت الاوفر حظاً في تطوير تجارب قطرية تتمايز من حيث الشكل المؤسسي لتتقاطع في المهمة وهي تنسيق العمل الحكومي والرسمي لحقوق الانسان وتجسير الهوة بين المؤسسات الرسمية وعمل المجتمع المدني والنهوض بالاعباء والالتزامات الدولية من اعداد تقارير وتنفيذ توصيات ورسم خطط وسياسات وتكريس ممارسات ايجابية، ومثلت حالة فريدة من نوعها في التعامل مع اللجنة الاوروبية بل وبعض الطلبات من المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان فضلاً عن النهوض بدور التنسيق للتعامل مع آليات الامم المتحدة.
على الصعيد الوطني مثلت عملية التنسيق الرسمية لأعمال حقوق الانسان صيرة وصيرورة ودون الخوض في السرد والتأصيل التاريخي للمخاضات الوطنية من عمل وزارة الخارجية وتشكيل لجان وغيرها من إجراءات الا أن انضاج تجربة المنسق الحكومي لحقوق الانسان في رئاسة الوزراء مثل حالة نادرة على الصعيد الوطني والاقليمي، فمنذ ان تم استحداث منصب المنسق الحكومي في رئاسة الوزراء بدأت حالة النقاش والتشاور مع المجتمع المدني تتخذ شكلا وطنياً جديداً امتاز بالتشاور والنقاش الفعال والانفتاح على أعمال المجتمع المدني من جهة، ولعل متابعة الوزارات والمؤسسات الرسمية في تنفيذ التوصيات وحثها على الايفاء بكافة المتطلبات التي شكلت التزاماً وطنياً كان العمل الجديد والنوعي ضمن سياق وطني شامل استطاع فيه الاطراف إدراك أهمية تعزيز وحماية حقوق الانسان على المستوى الوطني وأهمية الانخراط في الحراك العالمي في هذا الصدد من جهة أخرى.
ولا بد من الاشارة الى ان إحداث مثل هذه التجربة الوطنية لاول مرة ما كانت لتنجح لولا ان تولى مهمتها اشخاص يدركون عظم وجسامة المسؤولية على الصعيد الوطني والدولي والاقليمي ويملكون من القدرات والمهارات ما يؤهلهم لذلك، فعمل التنسيق الوطني لحقوق الانسان ليس بالعمل السهل وفتح نقاش واع وفعال مع المجتمع المدني لا يتأتى لأي شخص، الا ان المدقق والراصد للمشهد الوطني يجد بكل حق تحولا كبيراً وملموساً في عملية التنسيق لحقوق الانسان على الصعيد الوطني، فالسياق الوطني قبل خمسة اعوام في علاقة المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية كان يسوده حالة من التشكيك وعدم الثقة وربما علت بعض الاصوات الى شيطنة المجتمع المدني.
الا ان الحالة شهدت تحولاً ملموساً بعد استحداث مكتب المنسق الحكومي لحقوق الانسان والذي استطاع القائمون عليه من تحمل التبعات الوطنية والمؤسسية وإدارة حوار وطني فاعل لرسم الخطط والسياسات وادارة الاولويات الحقوقية على الصعيد الوطني بل وجسر البون الشاسع وردم الهوة بين المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية في حالة صحية تنحاز لحقوق الانسان، بل واضحت مسألة الناس والحوار والاتفاق على الحلول هي سيدة الموقف في العديد من القضايا.
ربما أتيحت لي خلال السنوات المنصرمة الاطلاع على تجارب بعض الدول العربية ولاسيما في منطقة الخليج العربي وتحدثت عن حالة التنسيق الرسمي لحقوق الانسان والتي لاقت كل أذن صاغية بل وبعض الدول الان تسعى لاتباع النهج الاردني في عملية التنسيق الوطني لحقوق الانسان.
هذه الحالة الوطنية الفريدة لاقت التأييد على المستوى الدولي والاقليمي ففي العديد من التقارير الدولية تم الاشارة لانجازات واعمال المنسق الحكومي لحقوق الانسان في الاردن بل وصارت حالة المأسسة مطلباً دولياً وخياراً وطنياً تبنته العديد من الجهات ولا أدل على ذلك من دليل صادر عن الامم المتحدة بشأن مأسسة الالية الوطنية والتنسيق الحكومي لحقوق الانسان والذي يقدم مقاربات نحو الخيارات الوطنية التي من الممكن اتباعها من قبل الدول الاعضاء لضمان التنسيق الفعال لاوضاع حقوق الانسان.
على ضوء ذلك نغدو بأمس الحاجة لمتابعة الانجازات المتحققة على الصعيد الوطني بهذا الصدد والمضي قدماً في انضاج تجربة وطنية تمثل نهجاً شمولياً في متابعة اوضاع حقوق الانسان، وان المتتبع لعمل المنسق الحكومي لحقوق الانسان يجد حالة وطنية نادره من العمل والنشاط والمتابعة والتواصل والتنسيق وادارة مشاورات كان لها اكبر الاثر في تقريب وجهات النظر وحسم العديد من الملفات الخلافية على الصعيد الوطني، هذه التجربة هي الادعى بأن نبني عليها ونراكم على الخبرات وان تحظى بمزيد من الدعم لمواصلة الجهود نحو مزيد من الانجاز.