لا تزال القواعد الأصولية في تنظيم عملية الإنتخاب بكافة مراحلها يكتنفها الغموض والإبهام لدى البعض، ولدى بعض المؤسسات ذات العلاقة بالإنتخاب، إذ العملية الإنتخابية إستقرت مبادئها وآليات تنفيذها بكافة مراحلها عبر الزمن، وأقترن ذلك بتطور النظام الديمقراطي كأحد أدوات إدارة المؤسسات أو الدول، وتعمقت تلك المبادئ خلال مراكمة التجارب الدولية الايجابية والعريقة، بإتباع كل إجراء من شأنه أن يكشف عن سلامة وشفافية ونزاهة العملية الإنتخابية بكافة مراحلها.
وقبل شهر من هذا التاريخ، طالعنا ديوان تفسير القوانين بقراره رقم 6 لعام 2016 بفتوى مفادها السماح للمرشحين المسجلين في جدول الناخبين الترشح عن أي دائرة انتخابية، معللاً ذلك – أي الديوان- بأن نص المادة 12 من قانون الإنتخاب واضحة لا يشوبها لبس أو غموض، وجرى العرف على تطبيق هذا النص في كافة قوانين الانتخاب وهو متعارف عليه، كما إستند إليه القرار.
في البداية لابد من التذكير بأن الهدف من أي نظام انتخابي هو تمثيل الشعب في مجلس الأمة أو الشورى، وأن الترشح في الدوائر الإنتخابية تمثيل أبناء المنطقة أو الدائرة الإنتخابية في مجلس الأمة للإسهام في تطوير التشريعات وممارسة الأعمال الرقابية بالنيابة عن أبناء تلك الدائرة، بل وذهب بعض فقهاء القانون الدستوري والمختصين بالأنظمة الإنتخابية بأن النائب يستمد هذه الصلاحيات من الصفة التمثيلية لأبناء دائرته الإنتخابية، وبالبناء على ذلك فإن هناك علاقة تبادلية بين النائب وأبناء دائرته الإنتخابية تخوله حق المطالبة وممارسة صلاحياته الدستورية من قدرته على تمثيلهم وتقدير إحتياجاتهم من خلال العيش المشترك بينهم، وعلى ذلك صار الى تطوير معايير تقسيم الدوائر الإنتخابية لضمان العدالة والمساواة في تقسيم المقاعد الإنتخابية على الدوائر، وكذلك ضمان التمثيل الأنسب بناء على المعايير الجغرافية، والسكانية، والتنموية. إذ في الأنظمة التي تمنح هيئة الناخبين سحب الثقة من ممثليهم يقتصر ممارسة هذا الحق على أبناء دائرته الإنتخابية اذ لا يتسقيم سحب تلك الصلاحية من ناخبين لم يمثلهم أو لم يكن جزء منهم.
بالإضافة الى ذلك، فإن طبيعة النظام الإنخابي تختلف من نظام الى أخر، فالأخذ بنظام الدائرة الواسعة على مستوى الدولة لا يستدعي وجود مثل هذا النص وإنما الإكتفاء بالتسجيل في جدول الناخبين، أما في النظم الإنتخابية ذات الدوائر فإن من متطلبات نجاحها وعدالة النظام الإنتخابي أن يختار أبناء الدائرة من يمثلهم من أبناء منطقتهم ” دائرتهم”، كونه الأقدر على تحديد إحتياجاتهم، وبذلك يتسم النظام الإنتخابي بالعدالة في التمثيل، اذ لا تقتصر عدالة التمثيل على توزيع المقاعد، وإنما هي عملية مستمرة تصاحب كافة إجراءات التنظيم الفني والإجرائي للعملية الإنتخابية، وتكشف الإدارة عن مقتضياتها بشكل مستمر.
إن الإستناد الى القوانين الناظمة للعملية الإنتخابية السابقة على أنها أخذت بهذا التوجه، لا يتفق مع أصول التفسير المتوجب إتباعها عند التصدي لتفسير نص قانوني يشوبه الإبهام والغموض، فقوانين الإنتخاب السابقة أخذت بنظام انتخابي مغاير عن الحالي، فضلاً عن أن الإستناد الى القوانين السابقة لا يشكل أي أداة أو منهج من مناهج التفسير الداخلي أو الخارجي للنص القانوني، ولا يوجد في أصول التفسير القانوني طريق من طرق التفسير ” المتعارف عليه” واذا كان المقصود بذلك العرف، فإنه احد مصادر التفسير له تراتبيه في اللجوء اليه، إذن عملية التفسير عملية مركبة تراكمية تنطلق من موجبات النص ومحتواه ومضمونه الى أدوات التفسير القانوني في حال عدم القدرة على الإستدال على منطوق النص.
ولو سلمنا بذلك، لما كان المشرع في قانون الإنتخاب بحاجة الى تطوير النصوص الخاصة بالشركس والشيشان والمسيحيين المتعلقة بالتسجيل في الدوائر التي خصص لهم فيها مقاعد، إذ بموجب ذلك لهم القدرة على الترشح عن أي دائرة في الدوائر المخصص لهم بها مقاعد، وبذالك لا نعود بحاجة الى تفسير النص المشار اليه، بإعتبار أن هذا التفسير ينطبق عليهم مرشحين وناخبين بحكم الإستثناء.
ان القواعد الاصولية الحساسة لقوانين الإنتخاب يجب أن تتسم بالعدالة بالنزاهة والشفافية، وتقضي بأن يكون لأبناء الدائرة الإنتخابية الحق في إختيار من يمثلهم من أبناء دائرتهم، لغايات عدم التهميش والإقصاء، فضلاً عن كونها تشكل مانعاً مهماً من موانع المال السياسي وإستخدام ذلك لبسط لون سياسي معين أو إستخدام قوائم أو فرض مشرحين بهدف النيل من غيرهم من أبناء الدائرة.
إن إعمال قواعد التفسير تتطلب البيان والوضوح في الوصول الى الحكم المبهم، ومن هذا المنطلق فإن المقصود بتفسير القانون هو بيان وإيضاح النصوص القانونية حتى تكون ظاهرة وواضحة، لكي يسهل تطبيقها والإستناد إليها ودراستها والبحث فيها.
كما أن التفسير يتم اللجوء إليه في عند نشوء حالات معينه ” اسباب التفسير” وليس أمراً اعتباطياً لا ضوابط له، ومن ضمن هذه الحالات الخطاء المادي في النصوص القانونية ويتم إزالة هذا الخطاء من خلال المؤسسات ذات العلاقة والإختصاص بإصدار التشريع، والحالة الأخرى هي غموض النص القانوني والتي تحتمل عباراته أكثر من معنى أو مدلول، وحينئذ على القاضي أو الجهة المختصة بالتفسير، وهو بصدد تفسير النص، الأخذ بالمفهوم الأقرب إلى الصواب، بشرط مراعاة بنية التشريع الكلية وقواعد أصول التفسير، والترتيب بين المصادر الرسمية للتفسير وغير الرسمية، وذلك للحصول على حكم النص وغاية المشرع. ويتم اللجوء الى التفسير في حال النقص في النص القانوني أي عندما يسكت المشرع عن إيراد بعض الألفاظ أو الأحكام وهنا يتم اللجوء الى طرق التفسير شريطة مراعاة قواعد وأصول التفسير. والحالة الأخيرة هي حال تناقض النصوص القانونية أي عند تعارض نصين قانونيين في موضوع واحد، بمعنى أن ينطبق نصين قانونيين على واقعة واحدة أو أن تتعارض أحكام النصوص فيظهر إستحالة في التطبيق.
وفي حالة المادة 12 من قانون الإنتخاب، نجد بأن من بديهات العمل القانوني فعلاً أنها لا تحتاج الى تفسير، وذلك على اساس أن من يريد الترشح ضمن دائرة معينة يشترط أن يدرج إسمه ضمن جداول الناخبين في تلك الدائرة، وإلا لما كنا بحاجة الى عملية التسجيل من أساسها، وعلى الفرض الساقط أن كل المواطنين راغبين في الترشح فما هو حكم القانون من إيراد جدول إنتخابي خاص بكل دائرة، ولما أفرد المشرع العديد من النصوص والإجراءات التي تنظم عملية تسجيل الناخبين، فليس صحيحاً أن هناك عرفاً أو سلوك متعارف عليه أن أي شخص مسجل في جداول الناخبين يستطيع التشرح عن أي دائرة انتخابية يريد، اذ القول بهذا يجعل مسألة العدالة غائبة عن الإنتخابات السابقة كلياً.
وعليه، فإن النص المشار اليه لا ينتابه أي غموض أو إبهام يستدعي اللجوء الى التفسير بل مراكمة التجارب والإطلاع على الأدبيات العالمية في تطبيق النصوص يجعل من عملية تطبيق النص هي الأساس والأصل أن لا نسبغ حكماً هجيناً نلصقه بالنص يخرجه عن غاية التي تغياها المشرع.
إن تطبيق مثل هذا التفسير – اذا ما إستمر به – سيشكل أول الثغرات والمعيقات أمام وسم الانتخابات بالعدالة، والأجدى أن يتم إتخاذ تدابير قانونية عاجلة من شأنها الحد من أثار هذا التفسير، من خلال تعديل التعليمات وإفراد نص صريح أو الرجوع عن القرار من قبل ديوان تفسير القوانين.